إشارات على طريق الجنة
الجنة طريق المشتاقين , وغاية المؤمنين العابدين , وأمل القانتين المخبتين , وقد سعى إليها الساعون ورغب في سكناها الراغبون , وما قعد عن طلبها إلا الغافلون العاجزون , فقد حفت بالمكاره , واستعصت على كل جاحد وكاره , فيا سعده من جد إليها في الطلب وسعى إليها وما هرب , وبذل لها النفيس والغالي وكان من أهل الهمم والمعالي , ولم تقعده الدنيا عن طلبها والسعي إليها , ولا الشهوات والملذات عن وقف القلب والنفس عليها , فهي غاية الآمال , وثمرة الجد والأعمال .
والسالكون طريقهم إلى الجنة يجدون إشارات على الطريق تنبههم وتوقظهم , وهي إشارات تنقية وتخلية وتحلية , وهناك إشارات أربع مهمة يجدها السالكون في طريقهم إلى الجنة وهي :
الإشارة الأولى : التوبة والاعتذار :
فالله تعالى يدعو عباده العاصين المقصرين دائما إلى التوبة والاعتذار , وترك الذنوب والإصرار , قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (
سورة التحريم , وقال : " فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) سورة هود.
فهو يفرح بالتائبين ويقبل العاصين المذنبين , عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، وَهُوَ عَمُّهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ ، حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ ، مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلاَةٍ ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ ، فَأَيِسَ مِنْهَا ، فَأَتَى شَجَرَةً ، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا ، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ ، إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ، ثُمَّ قَالَ ، مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ : اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي ، وَأَنَا رَبُّكَ ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ. أخرجه مُسْلم 8/93(7060).
وعَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال:إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النهارِ، وًيبْسُطُ يَدَهُ بِالنهارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا.أخرجه أحمد 4/395 ومسلم 8/99 .
قال الشاعر :
يا نفسُ توبي فإنَّ الـمـوتَ قــد حــانـا * * * واعصي الـهوى فالـهـوى مازالَ فـتَّـانـا
يا نفسُ توبي مِنَ المعاصي وازدجري * * * واخشي إلــهــنـــا سِــــــرًّا وإعــــلانَــــا
مضى الزمـانُ وولَّى العُـمُــــرُ في لَــعِـبٍ * * * يكفيكِ ما قد مضى قد كان ما كانا
قال ذو النون المصري، بينما أنا في بعض سياحتي إذ مررت بشاطئ البحر فرأيت عقرباً أسود قد أقبل إلى أن جاء إلى شاطئ البحر، فظننت أنه يشرب فقمت لأنظر فإذا بضفدع قد خرج من الماء وأتاه فحمله على ظهر وذهب به إلى ذلك الجانب، قال ذو النون فاتزرت بمئزري وعمت خلفه حتى إذا صعد من ذلك الجانب صعدت وسرت وراءه فما زال حتى جاء إلى شجرة، فوجدت تحتها غلاماً نائماً من شدة السكر قد أقبل عليه تنين عظيم، قال: فلصقت العقرب برأس التنين ولسعته فقتلته ثم رجعت إلى ظهر الضفدع فعبر بها إلى الماء وسار بها إلى المكان الذي جاءت منه قال ذو النون فتعجبت من ذلك وأنشدت:
يا راقداً والجليل يحفظه * * * من كل سوء يكون في الظلم
كيف تنام العيون عن ملك * * * يأتيك منه فوائد النعم
ثم أيقظت الغلام وأخبرته بذلك قال: فلما سمع ذلك قال: أشهدك على أني قد تبت عن هذه الخصلة، ثم جرينا ذلك التنين ورميناه في البحر ولبس ذلك الغلام مسحاً وساح إلى أن مات رحمة الله تعالى عليه.ابن قدامة : التوابين 227.
فبادر بالتوبة والإنابة حتى تنال القبول والإجابة , وتنبه لتلك الإشارة قبل أن يأتيك الموت بغتة فلا تجد اللفظة والعبارة .
الإشارة الثانية : الدعاء والاستغفار :
الدعاء وطلب المغفرة من الله تعالى إشارة ثانية على طريق الجنة ترشد المؤمنين الصالحين إلى ما ينبغي أن يكونوا عليه من حسن الصلة بربهم ودوام ذكرهم له وإخباتهم إليه , فالدعاء وطلب المغفرة من الله وحده سبيل السالكين طريقهم إلى الجنة وإشارة على سيرهم الصحيح إليها , قال تعالى على لسان سيدنا نوح عليه السلام:" رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح:28]، وقال: " وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ [هود:47].
وقال موسى عليه السلام لما قتل رجلا من الأقباط: " رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص:16].
وقال شعيب لقومه: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود:90].
وقال سيدنا صالح لقومه بعد أن أمرهم بعبادة الله: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود:61]. وحكى الله عن سيدنا داود لما تسَرَّع في الحكم بين الخصمين ولم يتريث في ذلك، فأحس بخطئه:" فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ " سورة ص 34.
وهذا إبراهيم عليه السلام كان يستغفر لنفسه ولأبيه رغم ضلاله، وبقي كذلك حتى تيقن أنه عدو الله فتبرأ منه، وكان يستغفر لكل مؤمن سابق ولاحق، رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:41].
وهذا خيرتهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم قال له ربه: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19]، وقال له: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3].
قال علي رضي الله عنه: " العجب ممن يهلك ومعه النجاة، قيل: وما هي ؟ قال: الاستغفار".
وقال قتادة – رحمه الله -: " القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم . أما داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفار". ويروى عن لقمان عليه السلام أنه قال لابنه: ( يا بني، عوِّد لسانك: اللهم اغفر لي، فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلاً ).
وقال أبو المنهال: (ما جاور عبد في قبره من جار أحب من الاستغفار).
وقال الحسن: (أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقاتكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم، فإنكم لا تدرون متى تنزل المغفرة).
وعنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم - يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ : ( جُمْدَانُ ) فَقَالَ : « سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ » . قَالُوا : وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : « الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ » رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وعن عبد الله بن بسر ، وعن عائشة، وعن أبي الدرداء موقوفا: "طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا" صحيح الجامع حديث رقم (3930) .
وعن الزبير: "من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار". صحيح الجامع حديث رقم(5955).
يا من يجيب العبد قبل سؤاله* * * ويجود للعاصين بالغفران
وإذا أتاه السائلون لعفوه * * * ستر القبيح وجاد بالإحسان
وعَنْ أَبِى بُرْدَةَ بْنِ أَبِى مُوسَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم - « أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَىَّ أَمَانَيْنِ لأُمَّتِى { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (33) سورة الأنفال، إِذَا مَضَيْتُ تَرَكْتُ فِيهِمْ الاِسْتِغْفَارَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ »سنن الترمذي(3362 ) صحيح لغيره.
وقد شَكَا رَجُل إلى الْحَسَن البصري الْجُدُوبة فقال له : اسْتَغْفِر الله ، وشكا آخر إليه الفَقر ، فقال له : اسْتَغْفِر الله ، وقال له آخر : ادْع الله أن يَرزقني وَلدا ، فقال له اسْتَغْفر الله ، وشَكا إليه آخر جَفاف بُستانه ، فقال له : اسْتَغْفِر الله . فقيل له في ذلك ، فقال : ما قلت من عندي شيئا ! إن الله تعالى يقول في سورة نوح : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) .12) سورة نوح .
وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يُكثر من الاستغفار إذا أشكلتْ عليه مسألة . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : إنه ليقف خاطري في المسألة والشيء أو الحالة التي تُشْكِل عليّ فأستغفر الله تعالى ألف مرة أو أكثر أو أقل حتى ينشرح الصدر ويَنْحَلّ إشْكال ما أشْكَل قال : وأكون إذ ذاك في السوق أو المسجد أو الدرب أو المدرسة لا يمنعني ذلك مِن الذِّكْر والاستغفار إلى أن أنال مطلوبي .
روي عن السري بن مغلس السقطي أن لصاً دخل بيت مالك بن دينار فما وجد شيئاً فجاء ليخرج فناداه مالك: سلام عليكم، فقال: وعليك السلام، قال: ما حصل لكم شيء من الدنيا فترغب في شيء من الآخرة - قال: نعم، قال: توضأ من هذا المركن وصل ركعتين، واستغفر الله ففعل ثم قال: يا سيدي أجلس إلى الصبح، قال: فلما خرج مالك إلى المسجد قال أصحابه: من هذا معك - قال: جاء يسرقنا فسرقناه. تاريخ الإسلام للذهبي 2/144.
قال الشاعر:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة * * * فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن * * * فبمن يلوذ ويستجير المجرم
أدعوك ربي كما أمرت تضرعا * * * فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
ما لي إليك وسيلة إلا الرجاء * * * وجميل عفوك ثم أني مسلم
الإشارة الثالثة : إن الحسنات يذهبن السيئات :
وهذه إشارة ثالثة مهمة على طريق الجنة , وهي أن يتبع المؤمن السيئة الحسنة كي تمحها وتزيلها , مصداقاً لقوله سبحانه: " وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) سورة هود .
عَنْ عَلْقَمَةَ وَالأَسْوَدِ ، عَنْ عَبْداللهِ ، قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَارَسُولَ اللهِ ، إِنِّي عَالَجْتُ امْرَأَةً فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ ، وَإِنِّي أَصَبْتُ مِنْهَا مَادُونَ أَنْ أَمَسَّهَا، فَأَنَا هَذَا ، فَاقْضِ فِيَّ مَاشِئْتَ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : لَقَدْ سَتَرَكَ اللَّهُ ، لَوْ سَتَرْتَ نَفْسَكَ ، قَالَ : فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا ، فَقَامَ الرَّجُلُ فَانْطَلَقَ ، فَأَتْبَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً دَعَاهُ ، وَتَلاَ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةَ : " أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ) ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : يَانَبِيَّ اللهِ ، هَذَا لَهُ خَاصَّةً ؟ قَالَ : بَلْ لِلنًّاسِ كَافَّةً. أخرجه أحمد 1/445(4250) و"مسلم" 8/102(7104) و"أبو داود" 4468 و"التِّرمِذي" 3112 والسيوطي : تفسير الدر المنثور 4/483.
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَىَّ ، قَالَ : وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ ، قَالَ : وَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ ، فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلاَةَ ، قَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا ، فَأَقِمْ فِيَّ كِتَابَ اللهِ ، قَالَ : أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَإِنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ ، أَوْ قَالَ : حَدَّكَ. أخرجه البُخَارِي 8/206(6823) و"مسلم" 8/102 (7106) .
وهذا ما أكد عليه النبي صلى الله عليه وسلم , عَنْ مُعَاذٍ ، أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَوْصِنِي ، قَالَ : اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ ، أَوْ أَيْنَمَا كُنْتَ ، قَالَ : زِدْنِي ، قَالَ : أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا ، قَالَ : زِدْنِي ، قَالَ : خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ. أخرجه أحمد 5/228(22337) و"التِّرمِذي"1987.
عَنْ طَوِيلٍ شَطَبٍ الْمَمْدُودِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : أَرَأَيْتَ رَجُلا عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا فَلَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لا يَتْرُكُ حَاجَةً أَوْ دَاجَةً إِلا اقْتَطَعَهَا بِيَمِينِهِ ، فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ تَوْبَةٍ ؟ قَالَ : هَلْ أَسْلَمْتَ ؟ قَالَ : أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : نَعَمْ ، تَفْعَلُ الْخَيْرَاتِ وَتَتْرُكُ الشَّرَّاتِ فَيَجْعَلُهُنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْخَيْرَاتِ كُلِّهِنَّ قَالَ وَغَدَرَاتِي وَفَجَرَاتِي ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ حَتَّى تَوَارَى. أخرجه البزار في "مسنده " (4/79-80/3244) الألباني : الصحيحة 3991.
فالمرء ليس بمعصوم عن الخطأ لكن المؤمن العاقل صاحب نفس لوامة تلومه على الذنوب والمعاصي .
وذكر الإمام أحمد عن وهب قال : (مكتوب في حكمة آل داود : حق على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه، ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات، وإجماماً للقلوب) . إغاثة اللهفان لابن القيم ج1 ص78 – 79.
قال الحسن البصري : إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه : ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجرة يمضي قدماً ما يعاتب نفسه.
قال الشاعر :
يا ويح نفسي من تتابع حوبتي* * * لو قد دعاني للحساب حسيبي
فاستيقظي يا نفس ويحك واحذري * * * حذراً يهيج عبرتي ونحيبي
واستدركي ما فات منك وسابقي * * * سطوات موت للنفوس طلوب
وابكي بكاء المستغيث وأعولي * * * إعوال عان في الوثاق غريب
هذا الشباب قد اعتللت بلهوه * * * أفليس ذا يا نفس حين مشيبي
هذا رقيب ليس عني غافلاً * * * يحصي علي ولو غفلت ذنوبي
أوليس من جهل بأني نائم* * * نوم السفيه وما ينام رقيبي
الإشارة الرابعة : الابتلاءات تمحيص وكفارات :
وهذه إشارة رابعة ومهمة توقظ الغافل وتنبه العاقل , وهي الأمراض والابتلاءات التي جعل الله تعالى للمؤمن تمحيص وكفارات , قال تعالى : " وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) سورة الشورى .
وعَنْ أَبي هُرَيْرَة ، عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ، قَالَ:مَا يُصِيبُ الْمسلِمَ مِنْ نَصَب ، وَلاَ وَصَب ، وَلاَ هَمِّ ، وَلاَ حَزن ، وَلاَ أَذىً ، وَلاَ غَمّ ، حَتى الشوْكَةِ يُشَاكُهَا ، إِلا كَفَّرَ اللهِ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ. أخرجه أحمد 2/303(8014) و"البُخَارِي" 7/148و"مسلم" 8/16(6660).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :مَا يَزَالُ الْبَلاَءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَة.أخرجه أحمد 2/287(7846) و"البُخاري" في الأدب المفرد (494) و"التِّرمِذي" 2399 .
وعَنْ عَبْداللهِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ ، وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا ، وَقُلْتُ : إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا ، قُلْتُ : إِنَّ ذَاكَ بِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ ؟ قَالَ : أَجَلْ ، مَامِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى ، إِلاَّ حَاتَّ اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ ، كَمَا تَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ. أخرجه أحمد 1/381 (3618) والبُخاري 7/149(5647) و"مسلم" 8/14(6651).
أخرج الدينوري في المجالسة عن وهيب بن الورد يقول الله تعالى إني لا أخرج أحدا من الدنيا وأنا أريد أن أرحمه حتى أوفيه بكل خطيئة كان عملها سقما في جسده ومصيبة في أهله وضيقا في معاشه وإقتارا في رزقه حتى أبلغ منه مثاقيل الذر فإن بقي عليه شيء شددت عليه الموت حتى يفضي إلي كيوم ولدته أمه وعزتي لا أخرج عبدا من الدنيا وأنا أريد أن أعذبه حتى أوفيه بكل حسنة عملها صحة في جسده وسعة في رزقه ورغدا في عيشه وأمنا في سربه حتى أبلغ منه مثاقيل الذر فإن بقي له شيء هونت عليه الموت حتى يفضي إلي وليس له حسنة يتقي بها النار. السيوطي: شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور 36.
وعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ الرَّجُلَ لَيَكُونُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى الْمَنْزِلَةُ فَمَا يَبْلُغُهَا بِعَمَلٍ ، فَمَا يَزَالُ يَبْتَلِيهِ بِمَا يَكْرَهُ حَتَّى يُبْلِغَُهُ إِيَّاهَا.أخرجه أبو يعلى في " مسنده " ( 4 / 1447 ) و عنه أخرجه ابن حبان ( 693 )و الحاكم ( 1 / 344 )الألباني( حسن ) انظر حديث رقم : 1625 في صحيح الجامع .
وعَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلاَءِ الثَّوَابَ ، لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بالْمَقَارِيضِ.أخرجه التِّرْمِذِي (2402) الألباني في " السلسلة الصحيحة " 5 / 240 .
وعَنْ أَبِي مُوسَى الأشْعَرِيِّ ، أًنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ ، قال الله ، لِمَلاَئِكَتِهِ : قَبَضْتُم وَلَدَ عَبْدِي ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ . فَيَقُولُ : قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ ؟ فَيَقُولَونَ : نعَمْ . فَيَقُولُ : مَاذَا قال عَبْدِي ؟ فَيَقُولُونَ : حَمِدَكَ وَاستَرْجَعَ . فَيَقُولُ الله : ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ . وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ.أخرجه أحمد 4/415 الألباني في " السلسلة الصحيحة " 3 / 398 .
فاصبـر لكـل مصيبـة وتجـلـدِ* * واعلـم بـأن المرء غير مخلد
واصبر كما صبــر الكرام فإنهـا* * نوبُ اليـوم تُكشَف فـي غدِ
مـن لم يصب ممـن ترى بمصيبة؟* * هذا سبيل لستَ عنه بأوحـد
فإذا ذكـرت مصيبـة ومصـابهـا* * فاذكـر مصابـك بالنبي محمـد
قال مُطرِّف بن عبدالله الشخير: أتيت عمران بن حصين يوماً، فقلت له: إني لأدع إتيانك لما أراك فيه، ولما أراك تلقى. قال: فلا تفعل، فو الله إن أحبه إليّ أحبه إلى الله .وكان عمران بن الحصين قد استسقى بطنه، فبقي ملقى على ظهره ثلاثين سنة، لا يقوم ولا يقعد، قد نقب له في سرير من جريد كان عليه موضع لقضاء حاجته.فدخل عليه مطرف وأخوه العلاء، فجعل يبكي لما يراه من حاله فقال: لم تبكي؟ قال: لأني أراك على هذه الحالة العظيمة. قال: لا تبك فإن أحبه إلى الله تعالى، أحبه إلي. ثم قال: أحدثك حديثاً لعل الله أن ينفع به، واكتم علي حتى أموت، إن الملائكة تزورني فآنس بها، وتسلم علي فأسمع تسليمها، فأعلم بذلك أن هذا البلاء ليس بعقوبة، إذ هو سبب هذه النعمة الجسيمة، فمن يشاهد هذا في بلائه، كيف لا يكون راضياً به؟!( إحياء علوم الدين 4/349).
فليحذر كل عاقل ولينتبه كل غافل ويعلم أن الدنيا زائلة وأن ساعة الحساب آتية لا ريب فيها , وأن طريق الجنة محفوف بالمكاره , وأن عليه أن ينتبه لما يأتيه من إشارات على طريق الجنة حتى لا يستيقظ إلا على الموت أو النار .